محمود أحمد السيد ورواية عن حسين الرحال

محمود أحمد السيد ورواية عن حسين الرحال

ياسين النصير
للريادة طعم الولادة الدائمة،هكذا تذكرنا ريادة الحداثة الشعرية في العراق،وعندما نتحدث عن محمود أحمد السيد روائيا أو قاصا، ستقتصر ريادته على ما انتج فيهما من تصورات جديدة، وهذه ريادة غير مكتملة، فقد سبق السيد آخرون وهم ينتجون روايات وقصصا،لعل الرواية الإيقاظية لسليمان فيضي التي انتجت في البصرة أواخر القرن التاسع عشر أقدم منها

وإن لم تكن نقية الأسلوب ومحددة النوع، لذا فريادة السيد كما اعتقد ليس في كتابة الرواية،إنما في التفكير الحداثي في تطوير المجتمع الذي استدعى اسلوبا فنيا مهما وكبيرا هو الرواية والقصة كي يقول ما يريده لتحديث المجتمع،رواية «جلال خالد» التي كتبت عام 1928 تتحدث عن مناخ واجواء الحراك السياسي الثقافي في السنوات التي سبقتها أية بداية العشرينيات.يجب أن تدرس الرواية من هذا الباب باب الرؤية الفكرية لتحديث المجتمع المعبّر عنها بالرواية اسلوبا وقالبا فنياً، وليست لأن رواية جلال خالد الرواية الأولى الناضجة، بالرغم من مستلزمات الريادة أن يكون النتاج الثقافي موازيا لها،فمن يقرأ الرواية اليوم سيجد الكثير من الهفوات الأسلوبية فيها، ولكنها مع ذلك كله كانت الرواية الأنضج ضمن مرحلة التفكير النواة في الحداثة الفكرية والروائية للمجتمع العراقي.

بالطبع لم يخرج محمود أحمد السيد من جدار مجهول، فالفكر التنويري موجود في العراق منذ نهاية القرن التاسع عشر، وكان المبكر في اعتناقه فكرا تحديثيا هو حسين الرحال، الذي تتلمذ على يد المدرس الأرمني «أرسين كيدور هوشناق”حين كان يدرس كما يقول حنا بطاطو في المدرسة السلطانية، عام 1914 وكان حسين الرحال في سن الحادية عشرة تلميذا في هذه المدرسة.. ولجذور حسين الرحال وتنقلاته مع ابيه في عموم مدن العراق، ثم سفره مع والده إلى ألمانيا ومشاهدته عمليا لثوار «سبارتكوس بند”وهم عمال شيوعيون يريدون اقامة دولة لهم حيث نصبوا متاريسهم في شوارع برلين وكان معظمهم من الشبيبة، ليعود للعراق وهو محمل بفكرة الثورة الموضعية التي شحذت فكره، ليصبح أحد أهم محركي ثورة العشرين.وعندما إحتل الفرنسيون دمشق في هذه السنة اصبحت مهمة تهيئة القيادات العراقية للقيام بثورة العشرين في العراق أمرا واقعا، كل ذلك بدأ يفرض تحولا ثوريا لدى حسين الرحال، ويتحول من فكرة للثورةعائمة متشظية، إلى فكرة عملية وميدانية، فكانت شذرات لقاءاته هنا وهناك تتحول إلى قوة فكرية مادية يمكنها أن تحرك الشارع، فلم يكن أمامه إلا المثقفون والشبيبة، فهما ميدان حركة لقيادة هذه الفاعلية الجماهيرية الجديدة.
تفكير مبكر
قد يبدو الحديث عن حسين الرحال خاصا بالرحال نفسه، في حين أن حسين الرحال كان وجماعة من الشباب جذوة تفكير مبكر في تأسيس حلقات ثقافية يتدارسون فيها ما يمكن عمله، فالحرب العالمية الأولى قائمة ولم تحسم نتائجها بعد، والتفكير بالتغير يتخذ أشكالا نواة،فيلتقي بأحمد محمود السيد وآخرين ويؤسس لذلك جريدة الصحيفة، الجريدة التي قادت فكرة التنوير،فيصبح شخصية كارزمية جعلت محمود أحمد السيد يتخذ من الرحال بطلا لرواية «جلال خالد» فتهيئ للرواية شخصيتين: شخصية محمود احمد السيد وهو كاتبها المتطلع ثقافيا، وشخصية حسين الرحال التي بدت روح المغامرة قائمة في تفكيره عندما ذهب عام 1921 إلى الهند أملا في الوصول إلى ألمانيا لمتابعة دراسته، لكن أمرا ما احتجز الرحال في الهند، وبقي فترة سنة كاملة تعرف على دور الصحيفة الشيوعية الهندية «الحرية”في تحريك الرأي العام،والتي كانت تغذي أفكاره التنويرية، وتعرف على شخصية صحفية ماركسية هو «سوامي».. هذه الأرضية استثمرها محمود أحمد السيد في روايته جلال خالد، وعدّ بطلها أنموذجا ينهل من معارف وتجارب العالم»المانيا والهند» كي يكون بطلا عراقيا ومختبرا حيا للأفكار الجديدة التي نهض بها الشباب يومذاك..ويمكن تلمس ثلاثة خطوط أولية لأرضية هذه الرواية:
توجه يساري
الأول هو الوضع السياسي الثقافي في العراق خلال فترة العشرينيات وخاصة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتقسيم منطقة الشرق إلى دويلات، وحضور مكثف للقوات الإنجليزية في الشرق الأوسط، وسقوط دمشق بيد الفرنسيين عام،1920 واحتلال فلسطين والعراق قبل هذا التاريخ،كل ذلك صاحبه نهوض شبابي لحركات يسارية مضادة للأجنبي، ومتطلعة لحكم وطني، وقد درست هذه الأرضية بما فيه الكفاية من قبل أساتذة وجدوا فيها البداية التي أعانت العراقيين على تأسيس أو المطالبة بحكم وطني بالرغم من الإنقسام الحاد بين من يؤيد العثمانيين بوصفهم مسلمين ومن يؤيد التغيير الذي يحدثه الإنجليز ومن بينهم بعض العرب، هذه الأرضية جعلت مفكري العراق يومذاك يصوبون رؤيتهم للداخل العراقي، وللشبيبة بوجه خاص وللاقتصاد وللثقافة ممثلة بالصحافة واللقاءات الفنية وقراءة الكتب التي ترد من اسطنبول والقاهرة، وعقد لقاءت شعبية مهدت لقيام حركة سياسية توجت لاحقا بثورة العشرين بعد أن كانت نواة التململ قائمة في 1918 في ثورة النجف التي أجهضها الإنجليز..إن وجود ثقافة مغايرة يقودها الشباب ضد البنية التقليدية لكبار السن كان أمرا منطقيا لمثل هذه الأوضاع، فقد تلبست ثورة العشرين باللباس الديني في حين أن جانبها الشعبي لم يدرس إلا عبر العشائر والجامع،هذا الوضع رصده الشعراء فوجدوا ثمة تململا في صفوف الشباب ضد التقاليد والمفاهيم التي تحجم ثورة مثل ثورة العشرين، وتجعل منها ردة فعل وليست ثورة تغيير،هذا الوضع شجع الكثيرين من الشباب الخروج على تقاليد وأعراف القبيلة، لعل الشاعر الرصافي أول من رصد هذه الأرضية بقصائد منها ما يستشهد به حنا بطاطو
سئمت كل قديم عرفته في حياتي
إن كان عندك شيء من الجديد فهات
أو حين قال
ثوروا على العادات ثورة حانقٍ
وتمردوا حتى على الأقدارِ
الثاني هو وجود أرضية سياسية مبكرة تمثلت بجمعية أسمت نفسها»الحزب السري العراقي»الذي تأسس عام 1922 وكان هذا الحزب قومي الاتجاه أول الأمر، لكن أعضاءه من الشبيبة والمتمردين الذين ما ان شكلوا خلاياه الأولى حتى بدأت حركتهم تتجه نحو محاربة الاغنياء «وفي عام 1924 كما يقول بطاطو شقوا طريقم لمكاتب الأغنياء وهددوهم بدفع آلاف الروبيات للفقراء”إن بنية التنظيم كانت نواة للتحرك، وهو مسعى ما كان يخطر على رواد النهضة الذين كانوا يكتفون بلقاء عابر أو جلسة مقهى، ها هم أمام تنظيم اتخذ منطق السرية خارطة له والاهتمام بفقراء الناس طريقة لتطبيق أفكارهم، هذا الحزب سرعان ما قادته أوضاع الفقراء إلى أن يكون نواة تحرك الشارع ورواده ومثقفيه نحو التجديد..
الثالث هو الأرضية التي تركتها حركة النهضة العربية في لبنان، ابتداء من اواخر القرن التاسع عشر وإلى عشرينيات القرن العشرين، وكانت ممثلة بنخبة كبيرة من المفكرين من بينهم أحمد فارس الشدياق، مارون نقاش، بطرس البستاني، ابراهيم اليازجي،سليم البستاني، يعقوب صروف، شبلي الشميل، فرح انطون،جرجي زيدان،خليل مطران،أمين الريحاني، هؤلاء الذي أرسوا قواعد فكرية ومن مختلف التيارات والاتجاهات، حيث كانوا نواة النهضة العربية المترافقة مع روادها في مصر والشام..فمن بينهم الفيلسوف والمسرحي والشاعر والصحفي، بمعنى أن أدوات التعبير كانت إطارا عاما لتوصيل أفكارهم، ومن هنا نجد حسين الرحال يبدأ باصدار جريدة الصحيفة، ويبدأ محمود أحمد السيد باستثمار خبرة وحياة حسين الرحال ليجعل منه بطلا لروايته جلال خالد..وبمثل ما كان لبنان همزة وصل كما يقول عصام محفوظ،حاول العراق أن يوصل الشرق بالغرب عبر ميناء البصرة والرحلات السياحية إلى الهند،الطريق الذي سلكه حسين الرحال خشية أن يمر بدمشق التي كانت على خلاف مع العراق يومذاك، ومن هنا نجد هذه الرحلة التي ما كان لها أن تستمر، فقد استمرت سنة كاملة اعطت معلوماتها لمحمود احمد السيد بأن يشكل منها نواة روايته عندما يجدد بطلها معلوماته عن الماركسية، وكيفية نضال الهنود السياسي، والمهمة، وهو الشاب الذي يجب أن يقوم بها في العراق.. طرحت رواية جلال خالد خمس مشكلات جذرية على الصعيدين الفني والفكري،
وهو ما يجعلها رواية استكشاف ورؤية، وليست رواية حدث أو شخصية.
مشاكل ثقافية
المشكل الأول وضمن توجهات المرحلة وقلة النتاج الروائي المؤلف أو المترجم، يجعل من جلال خالد تطورا لقصص الرؤيا التي كانت سائدة يومذاك، وهي القصص التي تعتمد على سياقات الأحلام والتمنيات ومعظمها كما يشير الدكتور المرحوم عبد الإله أحمد أنها فردية وقضاياها محددة بالرغبات والتطلعات، وإذا ما وضعنا هذا التصور ضمن سياق شيوع الحكاية وهيمنة القوى العثمانية المتخلفة على الثقافة العراقية لا نجد ثمة تصورا لجلال خالد غير أنها باكورة امتزاج موقف وطني معبرعنه بفنية اتخذت في صفحات كثيرة منها طابع السرد، وفي صفحات أخرى طابع الرسائل..
المشكل الثاني، وهو الارضية التي توجهت الرواية إليها، وهي الشباب،هذه الأرضيةنجدها متوفرة في الرواية على صعيدين: الصعيد الأول ان بطلها ومؤلفها هما من فئة الشباب،أما الصعيد الثاني،فالخطاب موجه لشريحة اجتماعية يستهويها التجريب والظهور والعمل، والخطاب المناقض لخطاب الآباء والعقائد السائدة وهو ما شخصه الرصافي،وثمة صعيد ثالث وهو ما يجمع بين الاثنين، هو ان المرحلة تشهد حراكا عالميا وعربيا وداخليا، ففي الداخل ثمة حركة لثورة العشرين، وفي العالم بدأ ترميم البلدان التي نهضت من الحرب مهزومة، وعلى المستوى العربي تشهد القاهرة وبيروت حراكا من اجل حقوق المرأة والشباب قاده قاسم أمين.هذه الأرضية فرضت على السيد أن يعتمد أسلوبا خطابيا مباشرا بثوب قصصي..
المشكل الثالث، وهو ان هذا الحراك الجماهيري بحاجة إلى قاعدة مختصرة تنظم فعالياته، فكانت جريدة الصحيفة والحلقات الماركسية الأولى،نواة لهذا التنظيم، وقد استثمر حسين الرحال الحالتين لتكوين رؤية تنظيمية لا تخشى الشارع العام بطروحاتها، ولا تدعي امكانيات ليس بمقدروها العمل فيها،من هنا كانت الوجهة الثقافية هي الميدان الذي يستوعب هذا الحراك..
المشكل الرابع، أن الرواية خاطبت مكونات مرحلة ولم تقتصر على فئة الشباب فقط،حيث شخصت احتياجات العراق والمنطقة ودورها الاقليمي، وما سوف يلعبه العراق على مختلف الجهات،وهذا الدور يسمح له بان يكون في صدارة البلدان العربية للتحرر من الاستعمار البريطاني الذي بدا يرسخ كيانه عبر العشائر وبعض الشخصيات البرجواية، فأسس لذلك شركات ووزع الاراضي بين المشايخ لخلق طبقة اقطاعية جديدة..
المشكل الخامس، هو ان الرواية ليست نقية الاسلوب مما يعني ان خطابها المعرفي يتجه لمخاطبة شرائح واسعة من الناس المختلفي الثقافة، كبار السن والشباب، المرأة والطلبة،هذه الفسحة من المحاورة هي اشبه ما تكون ببيان سياسي عبر الثقافة يتوجه به الليبراليون للتنبيه وتوعية الشعب..