بغداد.. في منتصف القرن التاسع عشر .. مذكرات القائد جيمس فيلكس جونز

بغداد.. في منتصف القرن التاسع عشر .. مذكرات القائد جيمس فيلكس جونز

علي أبو الطحين
صدرت حديثاً عن مكتبة عدنان في بغداد ترجمة من الإنكليزية لأحد أهم الكتب التي تتناول خطط بغداد ومعالمها وتاريخ محلاتها في العصر الحديث. والكتاب في الحقيقة هو ترجمة لمقالة واحدة تخص بغداد من ضمن مجموعة مقالات عن العراق كان قد وضعها ضابط البحرية البريطاني جيمس فيلكس جونز خلال عمله في العراق من 1840 وحتى 1855 وتم نشرها في بضعة أعداد من الدورية الجغرافية الملكية في بومبي ولندن.

ونظر لأهمية هذه المقالات تعهدت حكومة الهند البريطانية بجمعها واصدارها سوية في كتاب بعنوان"مذكرات القائد البحري جيمس فيلكس جونز"وطبعت في بومبي من قبل مطبعة الجمعية التربوية في سنة 1857.

اعتمد المترجم على نسخة الكتاب التي بحوزة مكتبة المتحف العراقي، وهي نسخة نفيسة همش عليها وأضاف إليها الكثير من التعليقات المفيدة المرحوم يعقوب سركيس. لذلك جاءت الترجمة لموضوعة محلات بغداد، في أسمائها ومواقعها وتاريخها، في غاية الدقة والروعة في المعلومة، والابداع في التنسيق والتنظيم، لما اجتمع من توثيق لأصل المصدر المعاصر، ثم المعالجة التاريخية والمعرفية الشاملة للمحقق يعقوب سركيس على هامش الكتاب، وبعدها إضافات المترجم والمعلق التي أغنت قائمة محلات بغداد القديمة بحس معرفي تاريخي وجغرافي شامل قل نظيره. لكن للأسف جاءت خارطة بغداد الملونة والمفصلة الكبيرة لمحلات بغداد في الكتاب الأصلي، صغيرة الحجم، غير واضحة المعالم، في أحد الصفحات الأخيرة من الكتاب المترجم. كان من الممكن الاستعانة بالخارطة المترجمة عن خارطة جونز الأصلية، المنشورة في كتاب"بغداد"الذي وضعه محمد مكية وآخرون، سنة 1969.
وعلى الرغم من الجهود المضنية والحثيثة المبذولة من قبل المترجم السيد عبد الهادي فنجان الساعدي والمعلق السيد معن حمدان علي في سبيل إخراج الكتاب إلى القارئ العربي، والعراقي بالخصوص، لما لهذا الكتاب من أهمية تاريخية كبيرة، ومرجعية معرفية رائدة لمدينة بغداد، إلا ان الترجمة جاءت للأسف بالعديد من الأخطاء والهفوات في بعض الأحيان، إضافة إلى عدم الدقة في البحث والتحقق من بعض المعلومات. وأنا أذ أدرج ادناه بعض من هذه النواقص والهفوات، ليس لي غاية سوى، أمنيتي أن تصحح وتعالج هذه الشوائب في طبعة قادمة، للحفاظ على الجهود القيمة التي بذلت من آجل أن يكون الكتاب مرجعاً توثيقياً مهماً يليق ببغداد وتاريخها.
جاء في تمهيد الكتاب، عن حياة جونز في العراق، في الصفحة 15 ما يلي:
[ مما يؤسف له ان المصادر المتوفرة لم تسعفنا بشيء عن حياة جونز قبل مجيئه إلى بغداد، فكل ما نعرفه عنه انه في بغداد قبل عام 1846،..... ].
وهذا يناقض ما جاء في صفحة 134 من الكتاب المترجم، حيث يشير المؤلف في رسالة عن أعمال الملاحة في انهار العراق، فيذكر انه كان يعمل في نهر الفرات قرب مدينة هيت في الفترة من نيسان إلى حزيران من سنة 1841. كان من الضروري بذل بعض الجهد في البحث ولو لبعض المعلومات المهمة عن حياة فيلكس جونز في العراق. وكان جونز كان قد جاء إلى العراق في آيار سنة 1840 وعمل قبل ذلك على مسوحات في موانئ الكويت في سنة 1839 قبل وصوله إلى البصرة، وخلال الفترة بين 1840 و 1846 أنجز جونز العديد من المسوحات الملاحية في انهر العراق. [ أنظر مقالتي في جريدة المدى، ذاكرة عراقية، يوم 29 كانون الآول 2014].
كذلك جاء في صفحة 16 من التمهيد: [ وقد غادر جونز بغداد سنة 1855 إلى انكلترة، وتوفي هناك في لندن... ]، وهذه معلومة افتراضية غير صحيحة، في الحقيقة انتقل جونز من بغداد إلى مدينة بوشهر الإيرانية حيث أصبح القنصل البريطاني العام في الخليج من سنة 1855 وحتى 1862، وكان يمكن مراجعة كتاب لوريمر"دليل الخليج"لهذا الغرض.
في الصفحة 36 في الحديث عن الدفاعات والتحصينات في مدينة بغداد ضد الهجمات العسكرية جاء:
[ المدينة مفتوحة تماما في وجهة النهر، ومع وجود بواخر صغيرة او سفن مزودة بمدافع وتتسم بحسن التمييز للرسومات فان بإمكانها السيطرة على الشرائع....]
العبارة التي تحتها خط هي ترجمة من النص الإنكليزي التالي:
and with small steamers or gunboats judiciously anchored so as to command the Sheriahs
والترجمة البسيطة لهذه العبارة:(بإمكان البواخر الصغيرة او القوارب الحربية ان ترسو بهدوء وتسيطر على الشرائع..) قصد المؤلف، أن المراكب التي ترسو بهدوء أو دون ضجة يمكنها السيطرة على الشرائع في بغداد... ما معنى"تتسم بحسن التمييز للرسومات،"ربما خطأ مطبعي وهذا ظني، ثم ليس هناك في النص سفن مزودة بمدافع، أذا كانت الغاية تفسير معنى القوارب الحربية فمن الأجدر وضعها في الهامش وليس في النص.
عن محلات بغداد في الصفحة 40 يبدأ النص:
[ المشهد التاسع لـ"بغداد"الذي يتبع هو الذي امدني به بكرم الدكتور"هايسلوب". انها صور فوتوغرافية... الخ ]
لا أظن ان القارئ سيفهم ما هو المقصود بالمشهد التاسع لبغداد الذي يتبع.. وربما كما يتضح لي، ان المترجم لم يفهم بالقصد من هذه العبارة التي جاءت بالانكليزية:The nine views of Baghdad which now follows.
في الحقيقة ان جونز كان قد وضع المقالة كما اسلفت أعلاه للجمعية الجغرافية في بومبي وتم القاء المحاضرة عن بغداد في الجمعية المذكورة في تشرين الأول من سنة 1854، مصحوبة بمجموعة من صور الفوتوغرافية عن بغداد. فجاءت العبارة في المقالة عند البدء بعرض الصور الفوتوغرافية التسعة عن بغداد إلى الحضور في القاعة بأن هذه المناظر التسعة التي ستقدم الآن كان قد التقطها الطبيب"هيسلوب"وهي صور فوتوغرافية حقيقية لكنها قد فقدت معالمها بعض الشيء بسبب رداءة مادة الكلورين المستخدمة في تحميض وتثبيت الصور. بذلك يجب ان تكون العبارة:
ان المناظر التسعة التالية لمدينة بغداد هي صور فوتوغرافية حقيقية ألتقطها الدكتور.... وان يوضح في الهامش ما هي حقيقة هذه الصور التي عرضت في المحاضرة.
في الحديث عن السكان في الأهوار جاء في الصفحة 123 ما يلي:
[ أنهم يمتازون بغنى علاقتهم المتبادلة والمقبولة مع العرب من القبائل الأخرى، ولديهم أسلحة نارية جيدة ويتنقلون من مكان إلى مكان بقوارب مضاءة تدعى"المشاحيف"والتي يقودونها على نحو رائع،...].
ماذا تعنى: قوارب مضاءة؟ جاءت ترجمة النص الذي تحته خط من: light boats called Mashaoofs
وكلمة light في الإنكليزية كما هو معروف تعني الضوء كما تعني خفيف الوزن، وبالطبع المقصود هو القوارب الخفيفة التي تدعى المشاحيف وليست المضاءة!!
لم يكن في تلك الأيام قد بدأ استخدام المراكب البخارية في النقل بين البصرة وبغداد، فكانت تستخدم المراكب الشراعية في نقل البضائع، وحيث ان الرياح الجنوبية قليلة الوقوع في العراق، فلم يكن هناك من حل سوى سحب المراكب المحملة بالبضائع عن طريق مجموعة من عمال السحب يسيرون على ساحل النهر بعد ان يربط المركب بالحبال. ولهذه المهنة الشاقة هناك قصص كثيرة في المرويات التاريخية العراقية. كان غريباُ أن لا يدرك المترجم هذه الحقيقة كما جاء في النص المترجم التالي في الصفحة 138:
[ تتطلب الرحلة من البصرة إلى بغداد مع مجموعة من المسافرين من أربعين إلى ستين يوما. اما مع طابقين من البضائع التي تجلب إلى العاصمة فتقطعهما في اثنين وعشرين يوما.]
كيف تصل مجموعة من المسافرين في 40 إلى 60 يوما، بينما طابقان من البضائع في 22 يوما؟ لاحظ النص الانكليزي:
The journey from Basreh to Baghdad occupies with a single band of trackers from forty to sixty days ; with a double set, a cargo has been brought to the city in twenty two days.
يقول المؤلف: ان الرحلة من البصرة إلى بغداد تستغرق من أربعين إلى ستين يوما مع مجموعة واحدة من عمال السحب، واستغرق نقل البضائع إلى المدينة باستخدام مجموعتين (من عمال السحب) في اثنين وعشرين يوما. فليس هناك مسافرون ولا طابقان من البضائع!!
عن أنواع الحيوانات التي تعيش في العراق، يذكر المؤلف أسماء بعض من الحيوانات البرية ويتابع، كما جاء في الترجمة في صفحة 139:
فضلا عن الحيوانات الداجنة الاعتيادية التي تزود الأهلين بالكثير من ثمرات إنتاجها، ذات القيمة الغذائية العالية والقيمة القليلة لكل من هذه المجموعات من الحيوانات وبضمنها الجمل.
وهذا ترجمة من النص الانكليزي:
a plentiful supply of the ordinary domestic animals, superior and inferior, of all communities, including the buffalo and camel.
يقول المؤلف: فضلا عن الكثير من الحيوانات الداجنة العادية، الجيدة والرديئة، من كل الأصناف، بضمنها الجاموس والجمل.
لم يكن المؤلف يتحدث عن ثمرات الحيوانات (مع التحفظ على كلمة ثمرات التي تنسب للنبات)، ولا على القيمة الغذائية العالية او القليلة لتلك الحيوانات! وانما يعدد انواع الحيوانات في العراق، وحين وصل إلى الحيوانات الأليفة الداجنة ذكر وجود العديد منها الجيدة أو المهمة التي ذات فائدة للأنسان والرديئة أو الدونية التي لا فائدة منها، ومن جميع الاصناف.
هناك بعض الجمل ترجمت بشكل حرفي فجاءت بعض العبارات مبهمة إلى حد ما، ولم تفهم إلا بالرجوع إلى النص الإنكليزي، لاحظ العبرات التي تحتها خط التالية:
صفحة 37: يلاحظ في الاستعدادات الداخلية بان معظم بناياتها العامة الشهيرة ستكون مرئية بشكل جيد من بين الإشكال المسطحة للبنايات الاخرى أو الاماكن التي استخدمت لملئ الفراغ في الخريطة. (المقصود بالاستعدادات هي التحصينات)
عند الحديث عن اللغات واللهجات المستخدمة في بغداد جاء في الصفحة 95: اللهجة العامية المستعملة في العاصمة هي لغة عربية ملحونة او غير صحيحة نحويا، وتسود بين السكان المسيحيين لهجة محرفة بشكل مفرط، وربما اغلب الجهل الفردي يكون نابعا عن جهل مشترك للرجال، كالجهل الموجود داخل اسوار"بغداد".
عن المناخ في بغداد جاء في صفحة 96: يقف مقياس الحرارة بشكل اعتيادي في الشتاء على درجة 50 درجة!! كيف الحرارة في الشتاء 50 درجة؟؟
في الحديث عن عشائر المنتفك في صفحة 122، ذكر بأنها: تستقر بين السماوة والبصرة... إلى دجلة جنوب غرب الحي و الى جنوب نهر الحد. ليس هناك في العراق نهر اسمه نهر الحد؟ وقد ورد في النص الأصلي River Hud وحين بحثت في كتاب لوريمر"دليل الخليج"أتضح أن المقصود هو نهر الكحلاء في العمارة.
لنقل البضائع في بغداد جاء في صفحة 131: توفر مراكب الماء في دجلة، ترجمة لعبارة water carriages والمقصود النقل النهري في دجلة
وفي صفحة 143: القبائل العربية المنتشرة على ارض عراق بابل، Irak Babylonia والمقصود القبائل العربية المنتشرة في جنوب العراق.
هناك بالطبع الكثير من الأخطاء البسيطة التي وردت في النص المترجم ولابد من تصحيحها، مثلا في صفحة 96: اكتوبر"تشرين الثاني"والمقصود"تشرين الاول" في صفحة 121 عبارة:"باشوات بغداد"والمفروض ان تكون"باشوية بغداد"ويقصد بها المؤلف"ولاية بغداد". في صفحة 154:"عشائر الإمارة"المقصود"عشائر العمارة". في صفحة 165:"رمادي كالح"والمقصود"قلعة الرمادي".
وأنصافاً للسيد المترجم عبد الهادي فنجان الساعدي، لابد من ذكر، بأن هناك صفحات عديدة من الكتاب جاءت بترجمة متينة ومحكمة، وأن الكتاب بمجمله، في التحقيق والتنظيم والإخراج يستحق منا كل الثناء والشكر لم قدمه للمكتبة العراقية من عمل مرجعي مهم لتاريخ بغداد وتراثها الحضاري.
والله من وراء القصد.