بين الحكم الذاتي والحكم المباشر.. من أحداث النجف في عهد الاحتلال البريطاني

بين الحكم الذاتي والحكم المباشر.. من أحداث النجف في عهد الاحتلال البريطاني

د. حسين عبد الواحد بدر

عارض كوكس ما جاء في التوصيات بشأن المدن المقدسة في الفرات الاوسط، واخذت الحكومة البريطانية بملاحظاته. وقد دل موقفه على انه كان يعني ان بقاءها خارج السيطرة العسكرية المباشرة، قد يشجع المدن الاخرى على الحذو حذوها نظراً لثقلها الديني، الأمر الذي سيربك وضع الجيش البريطاني، لاسيما وأن الحرب لم تضع اوزارها بعد، ولم تتخذ الاستراتيجية البريطانية بشأن مستقبل العراق شكلاً واضح المعالم.

وعلى وفق ذلك عين في آب 1917 الكابتن (النقيب) بلفور F.G.C.Belfor حاكماً سياسياً على منطقة الشامية والنجف، وحميد خان وكيلاً له في النجف، لكونه شيعي يتمتع بعلاقات طيبة مع المرجعيات الدينية وعشائر الفرات الاوسط، فضلاً عن ان وجود مسؤول محلي مسلم من شأنه ان يقلل من ردود افعال الاهالي ضد هذا الاجراء وبذلك فقدت المدينة حكمها الذاتي الذي تمتعت به منذ انتفاضة عام 1915 عندما شجع هزيمة العثمانيين في الشعيبة، زعماء المحلات الاربع (البراق، العمارة، الحويش، المشرق) على الخروج على الحكم العثماني وحققت خلاله نوعاً من الاستقرار الاقتصادي جنبها المعاناة التي مست اغلب مدن العراق أبان الحرب، مما اغضب معظم سكانها لاسيما زعماءها المحليون بيد ان هذا الاجراء لم يتسبب بردود فعل آنية، إذ امل زعماء المحلات النجفية بدور جديد يحفظ مصالحهم، واستمر الهدوء سيد الموقف إلى الحادي والثلاثين من تشرين الأول 1917، حينما اصر البريطانيون على نقل كمية كبيرة من الحبوب إلى زعماء قبيلة عنزة المواليين لهم، مما تسبب بارتفاع فاحش في اسعارها، وما كان من الاهالي وبمشاركة بعض النساء الا مهاجمة القافلة المحملة بالحبوب والاستيلاء عليها. وبعد فشل الجهود التي بذلها السيد اليزدي لتسوية المسألة لاصرار الحاكم السياسي بلفور على ضرورة دفع النجفيين غرامة مالية كبيرة، واهانته لبعض الزعماء المحليين، حدث هياج شعبي، اضطر على اثره حميد خان إلى تقديم استقالته ومغادرة المدينة.

حاول كوكس تهدئة الوضع فقام بجولة تقييمية في النجف التقى خلالها باليزدي تعهد له بعدم مصادرة مخزون المدينة من الحبوب وزيادة حصتها منه، لكنه ابلغه ايضاً انهم سينشرون قواتهم بالقرب من المدينة وباقي مدن الفرات الاوسط، في محاولة لامتصاص ردة الفعل المحتملة جراء ذلك. بعدها عُين النقيب مارشال Marshall وكيلاً للحاكم السياسي في النجف. واتسم موقف النجفيين ازاء ذلك بدعم الزعامات المحلية للمواجهة الدائمة، وهي المواجهة التي كانت تتخذ طابعاً سلمياً تارة وعنيفاً تارة اخرى، وقد ظلت كذلك حتى قيام انتفاضة المدينة.

في غضون ذلك كان لاهل العلم كلمتهم، إذ بدأوا في عقد ندوات لمناقشة القضايا السياسية والعامة، اشرف على تنظيمها عدد من الشخصيات الدينية وكبار مجددي النجف ذوي النزعة الدستورية. وقد اسفرت في تشرين الثاني 1917 من تشكيل جمعية سياسية سرية مناهضة للاحتلال البريطاني سميت بـ(جمعية النهضة الإسلامية) اختير لرئاستها السيد محمد علي بحر العلوم لمكانته الدينية، والشيخ محمد جواد الجزائري صاحب فكرة انشاءها نائباً

له، وضمت عضويتها العديد من المجتهدين ورجال الفكر.

وضعت الجمعية لنفسها منهاجاً أبرز ما جاء فيه: " تأييد وترويج قيام الحكومات الإسلامية عامة والحكومات العربية، ولاسيما الحكومة العراقية خاصة، وبذل كل ما في الوسع من الاموال والنفوس لتأمين استقلالها ".

وعلى هذا النحو تبنت هدف جوهري تمثل بتحرير العراق بعده السبيل الوحيد لاستقلاله. وفقاً لخطة تقوم على توعية المجتمع العراقي لاسيما في الفرات الاوسط بمخاطر الاستعمار البريطاني آنياً ومستقبلياً، وكسب تأييد زعماء المحلات الاربع وشيوخ عشائر الفرات الاوسط، ومن ثم القيام بقتل الحكام السياسيين البريطانيين لتشجيع الاهالي على الثورة؛ مما يؤكد انها بالرغم من طابعها الإسلامي الا ان توجهها كان وطنياً. وكانت باكورة نشاطها منشورات دورية ألصقتها على ابواب وجدران ضريح الامام علي (ع) تندد بالاحتلال وسياسته في العراق. وتمكنت من ضم معظم زعماء المحلات النجفية، الامر الذي شجع الكثير من حملة السلاح من شباب المحلات النجفية إلى الانضمام اليها. ونظراً لازدياد عدد أعضائها ارتأت ان تعتمد اسلوباً تنظيماً جديداً فقسمت اعضاءها إلى جناحين الأول سياسي وضم المؤسسين الاوائل والثاني عسكري وضم الزعماء المحليين ويشرف على حملة السلاح.

لكن الجمعية اخفقت بنيل دعم معظم شيوخ العشائر في الفرات الاوسط، مما اضطرها إلى الاتصال بالجيش العثماني الذي ما يزال يقاتل البريطانيين في اطراف الفرات الاعلى وتحديدًا شمال لواء الرمادي (محافظة الانبار حالياً) بغية الحصول على الدعم المادي والتسليحي وفقاً لشروط ومبادئ تضمن استقلال العراق في حال نجاح الجمعية بطرد البريطانيين. والواقع ان هذه الخطوة من المآخذ التي تؤخذ على الجمعية فليس من المنطق الركون إلى وعود عثمانية باستقلال العراق في تلك المرحلة، لذا كان عليها التأني حتى تنضج الظروف الملائمة بحيث لا تضطر الى هذا الخيار.

ادى اكتشاف البريطانيين للعلاقة بين الجمعية والعثمانيين، على اثر العثور على وثائق عثمانية تؤكد ذلك، الى ارسال تعزيزات عسكرية إلى النجف، مما دفع الجناح العسكري إلى اطلاق النار عليها، والتخطيط لاغتيال وكيل الحاكم السياسي النقيب مارشال، وبالرغم من تحفظ العديد من اعضاء الجناح السياسي على ذلك لكون الوقت لم يحن بعد للقيام بهذه الخطوة، الا ان الجناح العسكري نفذ ما خطط له في ليلة التاسع عشر من آذار 1918، حيث قامت مجموعة من اعضائه بقتل النقيب مارشال.

اثارت هذه العملية الجريئة غضب البريطانيين، وبعدما تأكدوا ان الفاعلين كانوا من اعضاء جمعية النهضة الاسلامية فرضوا حصاراً شاملاً على المدينة فمنع الدخول والخروج منها وقطعت عنها المياه والارزاق، أثار هذا الاجراء التعسفي الاهالي واعلنوا مساندتهم لرجال الجمعية المتمترسين خلف سور المدينة.

ازاء اشتداد قساوة الحصار على النجفيين، لاسيما ان المواد الغذائية قد نفذت عند الكثير منهم واضطرار البعض إلى اكل الجيف، وزاد الامر سوءًا القصف البريطاني على المدينة الذي اودى بحياة الكثيرين. حاول السيد اليزدي والشيخ شريعة الاصفهاني التوسط بين الطرفين أذ قاما بأرسال برقية الى الادارة المدنية في بغداد يحثونها على ضرورة انهاء معاناة الاهالي واصدار عفو عام كبادرة حسن نية لحل الازمة، بيد ان جهوده لم تثمر بسبب تعنت المسلحين واصرار البريطانيين على شروطهم القاسية.

غير ان يأس اعضاء الجمعية من الحصول على دعم العشائر القريبة من النجف، بفعل الحصار وتشديد البريطانيين الرقابة على الشيوخ الموالين للجمعية، فضلاً عن وسائل الترهيب والترغيب بالامتيازات والاعفاءت الضريبية من جهة، وتعاظم معاناة الاهالي والزائرين الموجودين في المدينة من جهة اخرى قد دفعهم إلى التراخي، فاستغل البريطانيون ذلك وقاموا بهجوم شرس في السابع من نيسان 1918 مكنهم من السيطرة على المدينة والقاء القبض على معظم اعضاء الجمعية.

شكلت في الكوفة محكمة عسكرية خاصة لمحاكمة اعضاء الجمعية المشاركين في الانتفاضة، واصدرت قرارها باعدام اربعة عشر منهم، كما صدر حكم على تسعة اخرين بالسجن لمدة تتراوح بين اربع سنوات والسجن المؤبد، فضلاً عن نفي (123) شخصاً إلى الهند بصفة اسرى حرب، وقد نفذ حكم الاعدام بحق احد عشر منهم في الكوفة فجر يوم الثلاثين من ايار 1918. بينما خففت الاحكام من الاعدام إلى النفي بحق الشيخ محمد جواد الجزائري والسيد محمد علي بحر العلوم، على اثر وساطة قام بها السيد اليزدي والميرزا الشيرازي لدى السلطات البريطانية، بعدّهما لم يشاركا فعلياً بقتل المارشال ولمكانتهما الدينية، وتمكن احد المحكومين من الفرار.

عن رسالة (موقف المؤسسة الدينية في النجف من مشروع الدولة الوطنية في العراق)